الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الفوائد **
النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظرة يرجوها ، ونعمة هو فيها لا يشعر بها ، فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرفه نعمته الحاضرة وأعطاه من شكره قيدا يقيدها به حتى لا تشرد،فإنها تشرد بالمعصية وتقيد بالشكر. ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة وبصَّره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها ووفقه لاجتنابها. وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه، وعرفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها. ويحكى أن أعرابيا دخل على الرشيد، فقال : يا أمير المؤمنين ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها. فأعجبه ذلك منه وقال: ما أحسن تقسيمه. مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات ، والتصورات تدعو إلى الإرشادات ، والإرشادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها . فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه، فإنه سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء . فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده وطرق معرفته وطرق عبوديته وإنزاله إياه حاضرا معه مشاهدا له ناظرا إليه رقيبا عليه مطلعا على خواطره وإرادته وهمه. فحينئذ يستحيي منه ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلع عليه مخلوق مثله أو يرى في نفسه خاطرا يمقته عليه. فمتى أنزل ربه هذه المنزلة منه رفعه وقربه منه، وأكرمه واجتباه ووالاه ، وبقدر ذلك يبعد عن الأوساخ والدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة. كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويقطع عن جميع الكمالات ويتصل بجميع النقائص. فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه . وشر المخلوقات إذا تباعد عنه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته. فمتى اختار التقرب إليه وآثره على نفسه وهواه فقد حكم قلبه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانه، وحكم رشده على غيه وهداه على هواه . ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده. واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر. فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة ، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها. ومعلوم أنه لم يعط الإنسان أمانة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه كما وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه ، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقا ينفع به نفسه وغيره ، وأكثرهم يطحن رملا وحصى وتبنا ونحو ذلك فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه. فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكرا جوالا فاستخدم الإرادة فتساعدك هي والفكر على استخدام الجوارح فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب (3) وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تدراكه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك ، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك. فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه وإن مكنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسدا. والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك، وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون، أو فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها أو في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوى عنه علمه فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه. وجماع إصلاح ذلك: أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار. وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها. وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته . وعند العارفين أن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة، ولا سيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها ، فإن تمنيها يشغل القلب ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده. وأنت تجد في الشاهد أن الملك من البشر إذا كان في بعض حاشيته وخدمه من هو متمن لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلئ منها، وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله، فإذا اطلع على سره وقصده مقته غاية المقت وأبغضه وقابله بما يستحقه ، وكان أبغض إليه من رجل بعيد عنه جنى بعض الجنايات وقلبه وسره مع الملك غير منطو على تمني الخيانة ومحبتها والحرص عليها، فالأول يتركها عجزا واشتغالا بما هو فيه وقلبه ممتلئ بها، والثاني يفعلها وقلبه كاره لها ليس فيه إضمار الخيانة ولا الإصرار عليها، فهذا أحسن حالا وأسلم عاقبة من الأول. وبالجملة ، فالقلب لا يخلو قط من الفكر إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه ، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة ، وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل رحى تدور بما يلقى فيها ، فإن ألقيت فيها حبا دارت به وإن ألقيت فيها زجاجا وحصى وبعرا دارت به، والله سبحانه هو قيم(4) وبالجملة، فقيم الرحى إذا تخلى عنها وعن إصلاحها وإلقاء الحب النافع فيها وجد العدو السبيل إلى إفسادها وإدارتها بما معه. وأصل صلاح هذه الرحى بالاشتغال بما يعنيك، وفسادها كله في الاشتغال بما لا يعنيك، وما أحسن ما قال بعض العقلاء: لما وجدت أنواع الذخائر منصوبة غرضا للمتألف ، ورأيت الزوال حاكما عليها مدركا لها، انصرفت عن جميعها إلى ما لا ينازع فيه ذو الحجا (5) قال شقيق بن إبراهيم(6) اشتغالهم بالنعمة عن شكرها ، ورغبتهم في العلم وتركهم العمل، والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم، وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها. قلت: وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة ، وأصله ضعف اليقين ، وأصله ضعف البصيرة ، وأصله مهانة النفس ودناءتها واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وإلا فلو كانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون. فأصل الخير كله بتوفيق الله ومشيئته وشرف النفس ونبلها وكبرها. فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار. فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجلّ ، والنفس المهنية الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك. فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها ، وهذا معنى قوله تعالى: من لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه؟ فاعلم أن الله تعالى خلق في صدرك بيتا وهو القلب ، ووضع في صدره عرشا لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى فهو مستو على عرشه بذاته بائن من خلقه. والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستوى على سرير القلب وعلى السرير بساط من الرضا . ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره وفتح إليه بابا من جنة رحمته والأنس به والشوق إلى لقائه، وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس ، وجعل في وسط البستان شجرة معرفة ، فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه. وأجرى إلى تلك الشجرة ما يسقيها من تدبر كلامه وفهمه والعمل بوصاياه . وعلق في ذلك البيت قنديلا أسرجه بضياء معرفته والإيمان به وتوحيده فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. ثم أحاط عليه حائطا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان فلا يلحقه أذاهم . وأقام عليه حرسا من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه، ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائما همه إصلاح السكن ولم شعثه ليرضاه الساكن منزلا. وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمه خشية انتقال الساكن منه، فنعم الساكن ونعم المسكن. فسبحان الله رب العالمين ، كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب وصار مأوى للحشرات والهوام ومحلا لإلقاء الأنتان والقاذورات فيه. فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن فيها ولا حافظ لها وهي معدة لقضاء الحاجة مظلمة الأرجاء منتنة الرائحة قد عمها الخراب وملأتها القاذورات ، فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام. الشيطان جالس على سريرها وعلى السرير بساط من الجهل وتخفق فيه أهواء وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات. وقد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة والركون إلى الدنيا والطمأنينة بها والزهد في الآخرة ، وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع ما أثبت فيه أصناف الشوك والحنظل والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات من الزوائد والتنديبات والنوادر والهزليات والمضحكات والأشعار الغزليات والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات وتزهد في الطاعات . وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والإعراض عنه، فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي واللهو واللعب والمجون والذهاب مع كل ريح واتباع كل شهوة، ومن ثمرها الهموم والغموم والأحزان والآلام . ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها، فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق ومعيشة ضنك ، وأجري إلى تلك الشجرة ما يسقيها من اتباع الهوى وطول الأمل والغرور. ثم ترك ذلك البيت وظلماته وخراب حيطانه بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان ولا مؤذ ولا قذر، فسبحان خالق هذا البيت وذلك البيت، فمن عرف بيته وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه، ومن جهل ذلك جهل نفسه وأضاع سعادته، وبالله التوفيق. سئل سهل التستري: الرجل يأكل في اليوم أكلة؟ قال: أكل الصديقين ، قيل له: فأكلتين؟ قال: أكل المؤمنين، قيل له: فثلاث أكلات؟ فقال: قل لأهله يبنوا له معلفا. قال الأسود بن سالم: ركعتين أصليهما لله أحب إلي من الجنة بما فيها. فقيل له: هذا خطأ، فقال: دعونا من كلامكم، الجنة رضا نفسي والركعتان رضا ربي ، ورضا ربي أحب إلي من رضا نفسي. العارف في الأرض ريحانة من رياحين الجنة، إذا شمها المريد اشتاقت نفسه إلى الجنة . قلب المحب موضوع بين جلال محبوبه وجماله فإذا لاحظ جلاله هابه وعظمه ، وإذا لاحظ جماله أحبه واشتاق إليه. من الناس من يعرف الله بالجود والإفضال والإحسان، ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم والتجاوز، ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام، ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة، ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء، ومنهم من يعرفه بالرحمة والبر واللطف ومنهم من يعرفه بالقهر والملك، ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته وإغاثة لهفته وقضاء حاجته. وأهم هؤلاء معرفة من عرفه من كلامه، فإنه يعرف ربا قد اجتمعت له صفات الكمال ونعوت الجلال، منزه عن المثال، بريء من النقائص والعيوب، له كل اسم حسن وكل وصف كمال، فعال لما يريد، فوق كل شيء ومع كل شيء، وقادر على كل شيء ، ومقيم لكل شيء ، آمر ناه متكلم بكلماته الدينية والكونية، أكبر من كل شيء وأجمل من كل شيء، أرحم الراحمين وأقدر القادرين وأحكم الحاكمين. فالقرآن أنزل لتعريف عباده به وبصراطه الموصول إليه وبحال السالكين بعد الوصول إليه. من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له، فيملها ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها، وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة، ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذرعا بتلك النعمة وسخطها وتبرم بها واستحكم ملله لها سلبه الله إياها . فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه، اشتد قلقه وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه، فإذا أراد الله بعبده خيرا ورشدا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمة عليه ورضاه به وأوزعه شكره عليه، فإذا حدثته نفسه بالانتقال عنه استخار ربه استخارة جاهل بمصلحته عاجز عنها، مفوض إلى الله طالب منه حسن اختياره له. وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله، فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله، فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة . هذا وهي من أعظم نعم الله عليه، فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم ولا يشعرون بفتح الله عليهم نعمة، وهم مجتهدون في دفعها وردها جهلا وظلما. فكم سعت إلى أحدهم من نعمة وهو ساع في ردها بجهده، وكم وصلت إليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله، قال تعالى: من أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه بالجمال، وهي معرفة خواص الخلق ، وكلهم عرفه بصفة من صفاته وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه، ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ولو فرضت الخلق كلهم على أجملهم صورة وكلهم على تلك الصورة ، ونسبت جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه لكان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس، ويكفي في جماله أنه لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته (7) ويكفي في جماله أنه له العزة جميعا والقوة جميعا والجود كله والإحسان كله والعلم كله والفضل كله، ولنور وجهه أشرقت الظلمات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الطائف(8) ومن أسمائه الحسنى "الجميل" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : وجماله سبحانه على أربع مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات ، وجمال الأفعال ، وجمال الأسماء، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كله صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة. وأما جمال الذات وما هو عليه فأمر لا يدركه سواه ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها إلى من أكرمه من عباده ، فإن ذلك الجمال مصون عن الأغيار محجوب بستر الرداء والإزار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن: قال ابن عباس : حجب الذات بالصفات وحجب الصفات بالأفعال ، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال وستر بنعوت العظمة والجلال. ومن هذا المعنى يفهم بعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات ، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات. فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات. ومن هنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله وأن أحدا من خلقه لا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وأنه يستحق أن يعبد لذاته ويحب لذاته ويشكر لذاته، وأنه سبحانه يحب نفسه ويثني على نفسه ويحمد نفسه، وأن محبته لنفسه وحمده لنفسه وثناءه على نفسه وتوحيده لنفسه هو في الحقيقة الحمد والثناء والحب والتوحيد، فهو سبحانه كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه ، وهو سبحانه كما يحب ذاته يحب صفاته وأفعاله، فكل أفعاله حسن محبوب وإن كان في مفعولاته (9) فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله، وأن يعلم أنه لا محسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة والباطنة إلا هو فيحبه لإحسانه وإنعامه ويحمده على ذلك فيحبه من الوجهين جميعا، وكما أنه ليس كمثله شيء فليس كمحبته محبة. والمحبة مع الخضوع هي العبودية التي خلق الخلق لأجلها،فإنها غاية الحب بغاية الذل، ولا يصلح ذلك إلا له سبحانه ، والإشراك به في هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله ولا يقبل لصاحبه عملا. وحمده يتضمن أصلين: الإخبار بمحامده وصفات كماله، والمحبة له عليها، فمن أخبر بمحاسن غيره من غير محبة له لم يكن حامدا، ومن أحبه من غير إخبار بمحاسنه لم يكن حامدا حتى يجمع الأمرين، وهو سبحانه يحمد نفسه بنفسه، ويحمد نفسه بما يجريه على ألسنة الحامدين له من ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين ، فهو الحامد لنفسه بهذا وهذا ، فإن حمدهم له بمشيئته وإذنه وتكوينه، فإنه هو الذي جعل الحامد حامدا والمسلم مسلما والمصلي مصليا والتائب تائبا، فمنه ابتدات النعم وإليه انتهت فابتدأت بحمده وانتهت إلى حمده، وهو الذي ألهم عبده التوبة وفرح بها أعظم فرح، وهي من فضله وجوده. وألهم عبده الطاعة وأعانه عليها ثم أثابه عليها وهي من فضله وجوده وهو سبحانه غني عن كل ما سواه بكل وجه، وما سواه فقير إليه بكل وجه، والعبد مفتقر إليه لذاته في الأسباب والغايات، فإن ما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا ينفع. وقوله في الحديث : فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فإنه من الجمال الذي يحبه، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة والجمال الباطن بالشكر عليها. ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده لباسا وزينة تجمل ظواهرهم ، وتقوى تجمل بواطنهم فقال: واحتجوا بقوله تعالى: وقابلهم الفريق الثاني فقالوا: قد ذم الله سبحانه جمال الصور وتمام القامة والخلقة ، فقال عن المنافقين : وفصل النزاع أن يقال: الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم، فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود . وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه. فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه، والمذموم منه ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه. فإن كثيرا من النفوس ليس لها همة في سوى ذلك. وأما ما لا يحمد ولا يذم هو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين. والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين : فأوله معرفة ، وآخره سلوك. فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء ، ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق . فيحب من عبده أن يحمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم الأظفار، فيعرفه بصفات الجمال ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة ، فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه ، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه، فجمع الحديث قاعدتين: المعرفة والسلوك. ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة ، فصدقه في عزمه وفي فعله ، قال تعالى: رب ذو إرادة أمر عبدا ذا إرادة ، فإن وفقه وأراد من نفسه أن يعينه ويلهمه فعل ما أمر به ، وإن خذله وخلاه وإرادته ونفسه، وهو من هذه الحيثية لا يختار إلا ما تهواه نفسه وطبعه ، فهو من حيث هو إنسان لا يريد على تلك الحيثية، وهو كونه مسلما ومؤمنا وصابرا ومحسنا وشكورا وتقيا وبرا ، ونحو ذلك . وهذا أمر زائد على مجرد كونه إنسانا وإرادته صالحة، ولكن لا يكفي مجرد صلاحيتها إن لم تؤيد بقدر زائد على ذلك وهو التوفيق ، كما أنه لا يكفي في الرؤية مجرد صلاحية العين للإدراك إن لم يحصل سبب آخر من النور المنفصل عنها . من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره ، فإنك توقر المخلوق وتجله أن يراك في حال لا توقر الله أن يراك عليها، قال تعالى: وهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم لو عظموا الله وعرفوا حق عظمته وحدوه وأطاعوه وشكروه، فطاعته سبحانه واجتناب معاصيه والحياء منه بحسب وقاره في القلب . ولهذا قال بعض السلف : ليعظم وقار الله في قلب أحدكم أن يذكره عندما يستحي من ذكره ، فيقرن اسمه به كما تقول : قبح الله الكلب والخنزير والنتن ونحو ذلك ، فهذا من وقار الله. ومن وقاره ألا تعدل به شيئا من خلقه ، لا في اللفظ ، بحيث تقول : والله وحياتك ، ما لي إلا الله وأنت ، وما شاء الله وشئت . ولا في الحب والتعظيم والإجلال ، ولا في الطاعة ، فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله ، بل أعظم ، كما عليه أكثر الظلمة والفجرة ، ولا في الخوف والرجاء . ويجعله أهون الناظرين إليه ، ولا يستهين بحقه ويقول: هو مبني على المسامحة ، ولا يجعله على الفضلة ، ويقدم حق المخلوق عليه ، ولا يكون الله ورسوله في حد وناحية ، والناس في ناحية وحد ، فيكون في الحد والشق الذي فيه الناس دون الحد والشق الذي فيه الله ورسوله ، ولا يعطي المخلوق في مخاطبته قلبه ولبه ويعطي الله في خدمته بدنه ولسانه دون قلبه وروحه ، ولا يجعل مراد نفسه مقدما على مراد ربه. فهذا كله من عدم وقار الله في القلب ، ومن كان كذلك فإن الله لا يلقي له في قلوب الناس وقارا ولا هيبة، بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم، وإن وقروه مخافة شره فذاك وقار بغض لا وقار حب وتعظيم . ومن وقار الله أن يستحي من اطلاعه على سره وضميره فيرى فيه ما يكره . ومن وقاره أن يستحي منه في الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس. والمقصود أن من لا يوقر الله وكلامه وما آتاه من العلم والحكمة كيف يطلب من الناس توقيره وتعظيمه؟! القرآن والعلم وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم صلات من الحق وتنبيهات وروادع وزواجر واردة إليك، والشيب زاجر ورادع وموقظ قائم بك، فلا ما ورد إليك وعظك! ولا ما قام بك نصحك! ومع هذا تطلب التوقير والتعظيم من غيرك! فأنت كمصاب لم تؤثر فيه مصيبته وعظا وانزجارا، وهو يطلب من غيره أن يتعظ وينزجر بالنظر إلى مصابه. فالضرب لم يؤثر فيه زجرا وهو يريد الانزجار ممن نظر إلى ضربه. من سمع بالمثلات والعقوبات والآيات في حق غيره ليس كمن رآها عيانا في غيره، فكيف بمن وجدها في نفسه؟ قال تعالى: والعاقل المؤيد بالتوفيق يعتبر بدون هذا ويتمم نقائص خلقته بفضائل أخلاقه وأعماله، فكلما امتحى (11) فالطالب الصادق في طلبه كلما خرب شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه، وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته، وكلما منع شيئا من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته، وكلما ناله هم أو حزن أو غم جعله في أفراح آخرته. فنقصان بدنه ودنياه ولذته وجاهه ورئاسته أن زاد في حصول ذلك وتوفيره عليه في معاده، كان رحمة به وخيرا له وإلا كان حرمانا وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة أو ترك واجب ظاهر أو باطن، فإن حرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة، وبالله التوفيق.
|